الشعب يريد إسقاط
الحزب الواحد
الحزب الواحد هو الداء الدوي الذي أعيا العقول والأفهام،
إذا انتشر في بيئة ما، إلا و حمل إليها
الخراب والدمار والهلاك، وجميع الموبقات التي لا تخطر للإنسان على بال ...
و هل كان سببا في انطلاقة شرارات الربيع العربي، في تونس ومصر وسوريا واليمن وليبيا أحد
سواه !!
لقد عانى المصريون مع الحزب الوطني، قرابة ثلاثة عقود من
إحكام السيطرة على مقاليد الأمور، كما أذاق حزب بن علي؛ التجمع الدستوري
الديموقراطي، التونسيين الأمرين خلال ما يزيد عن العقدين من الزمن.
أما العقيد القذافي الذي أمسك السلطة في بلاده بيد من
حديد؛ زهاء أكثر من أربعين سنة بعد انقلاب قاده ضد الملك
السنوسي، فلم تكن مجريات الأمور ببلاده، وكذا حقوق الناس، أحسن حالا، وأجمل مآلا ...والحكم
نفسه يظل ساريا وبقوة على حزب البعث السوري الذي ورث فيه الأب الحكم لابنه الطبيب،
وأودعه معه الغطرسة والبطش والتنكيل وكل أمر سيء يمكن أن يأتي الإنسان للذهن، دون
أن ننسى مناورات الرئيس المخلوع عبد الله صالح؛ الذي خلط الحكم بالقبلية والعشيرة
وهلم جرا، وبسط سلطانه على الناس بقوة السلاح من خلال إطالة أمد حزب المؤتمر
الشعبي العام في الحكم لفترة تربو على ثلاثين عاما، وها هو إلى الآن، على الرغم من
المبادرة الخليجية التي حصنته ضد الملاحقة الجنائية، سواء في الداخل كما حصل لعدة
رؤساء في العالم، أم في الخارج كما يحدث الآن للرئيس السوداني؛ الذي تطالب
الجنائية الدولية باعتقاله في كل محفل حل به ...على الرغم من الحصانة، لازال يتدخل
في أمور السياسة يحرك قواعد اللعبة، و قد ساعد الحوثيين على احتلال العاصمة صنعاء،
والعبث بـأمن المواطنين وأرواحهم، كما أنه متورط في التآمر مع الحوثيين للإطاحة
بحكم الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي ...
لماذا
كانت المناطق التي يحكمها الحزب الواحد في عالمنا العربي، أكثر البؤر اشتعالا
وتوترا دون بقية الدول الأخرى؟؟
لا
ننكر وجود قلاقل في بعض البلاد التي لا يهيمن عليها الحزب الواحد، ولكن نظرا
لوقوعها تحت تأثير التجاذب الطائفي، والتحريض المذهبي الاقليمي، فكل ذلك يدفعنا
لاستثنائها من سياقنا الذي نتحدث عنه ههنا ...
إن
أكبر مأزق وقعت فيه نخبنا السياسية والفكرية، وكذا القائمين على تدبير شؤون البلاد
والعباد، لاسيما في تلك الدول التي هيمن على مقاليد الحكم فيها، الحزب الواحد
المفرد، هو تجاهلهم التطور الذي عرفته المجتمعات التي آمنت بفكرة الحزب الواحد، بل
كانت هي المصدر الأول لهذا المشروع المشروخ؛ الذي تبين بالبرهان الساطع والدليل
القاطع، لاسيما بعد هبوب رياح الربيع العربي الهوجاء؛ التي اقتلعت كثيرا من مسلمات
بعض الذهنيات المتحجرة من الجذور، أنها كانت فكرة عابرة في سياق عابر، واليوم
وأمام التغييرات العميقة التي شهدتها أوروبا الشرقية بزعامة الاتحاد السوفياتي
سابقا، وبسبب تخلي روسيا في زمن غورباتشوف، عن فكرة الاشتراكية، والحزب الواحد
المهيمن على كل كبيرة وصغيرة، بعد إعلان انتهاج البيريسترويكا والانفتاح في مجال الاقتصاد، وسقوط
جدار برلين بعد ذلك، وتوحيد الألمانيتين، لم يعد مستساغا في عالمنا العربي، اعتناق
فكرة الحزب الواحد، والتعصب لها، وإرغام الناس على الإيمان بتعاليمها، و احترام
مقتضياتها صحيح بعد استقلال كثير من الدول العربية، وفي أثناء الحرب الباردة بين
المعسكرين؛ الشيوعي، والليبرالي الرأسمالي ، كانت الاصطفاف مع معسكر ضد المعسكر
الآخر، له ما يسوغه ويعلله ويزينه في عيون الرائين، لكن بعد سقوط محور أوروبا
الشرقية بزعامة الاتحاد السوفياتي سابقا، وبروز معالم النظام الدولي الجديد بزعامة
الولايات المتحدة الأمريكية، أصبح واجبا إعادة التفكير في أنموذج الحزب الواحد؛
الذي انبثق مع الثورة البولشفية التي أطاحت بالقياصرة في الاتحاد السوفياتي
سابقا...إننا لانقصد ههنا إجبار الناس على اعتناق الليبرالية الرأسمالية، والسير
في ركاب الغرب وعولمته المتوحشة، ولكن ما
نعنيه بنبذ فكرة الحزب الواحد؛ هو عدم إخضاع الناس لمنطق الايديولوجية الواحدة
المغلقة كما كان سائدا خلال العشرينات من القرن الماضي في الاتحاد السوفياتي ....إن
منطق الأشياء والتاريخ والسياق يقتضي الإيمان بحتمية التغيير؛ الذي يعتبر من السنن
الإلاهية الكونية، لا نعني بهذا الكلام، الانجرار خلف الدول الرائدة ومحاكاة
أنظمتها السياسية، والخضوع لتبعيتها، ولكن ما نتوخى بيانه في هذا المقام، هو أن
دولنا العربية، وأنظمتنا السياسية، يجب أن تظل منفتحة على التطوير والتجديد بما
يتناسب مع إرساء مبادئ حقوق الإنسان والحداثة والديموقراطية التي من معانيها ومبادئها
الراسخة؛ التداول السلمي على السلطة دون إراقة قطرة دم، أو إزهاق نفس أي مواطن أو
مواطنة ...صحيح أن بعض الأنظمة العربية ظلت وفية للنظام الاشتراكي وللحزب الواحد
الشمولي بحجة وذريعة الغطرسة الليبرالية، واستبداد الانظمة التي تتبع النهج
الرأسمالي، وهم يستندون في هذا الحكم على تبعات ومخلفات العولمة التي تنتصر على
الشعوب الضعيفة، وتبتلع الاقتصادات الهشة لأغلب دول الجنوب النامية أو الصاعدة
...هذا حجاج منطقي ولاشك، لكن مساوئ الليبرالية الرأسمالية لا يجب أن تمنعنا من
رؤية ايجابياتها و محاسنها المتجلية في الانفتاح، والحرية، وإرساء منظومة حقوق
الإنسان، ناهيك عن التداول الديموقراطي على السلطة ...إن علل الأنظمة التي ظلت
تضطهد شعوبها قبل الربيع العربي تحت راية الحزب الواحد الذي يمسك بتلابيب الحكم
والسلطة والإنتاج والاقتصاد، اتضح بعد الإطاحة بها والانقلاب الثوري عليها، بعد
الثورات العربية الناجحة التي شاركت فيها الجماهير الشعبية بتلقائية لا مثيل لها
من قبل، كل ذلك يمكن اعتباره دليلا ساطعا على قصر نظر المدافعين في السابق عن فكرة
الحزب الواحد ...بل إن الثورات العربية قد أبانت خطل الهتاف لزعيم واحد أوحد، بدل
الإنصات لنبض الشعب وفئات المجتمع وشرائحه كلها.
إن
الحزب الواحد، وفكره الذي ظل أنصاره و مريدوه يقاومون في السر والعلن، من أجل ترسيخه، وإقناع الناس
به عن طريق القوة تارة ، وعن طريق الدعاية الكاذبة والمارقة أحيانا أخرى؛ ثبت أنه
لم يكن أكثر من ايديولوجية مغلقة متزمتة؛ الهدف منها، إطالة أمد الديكتاتورية الفردية التي تأبى
المزاحمة والاختلاف ...و يضيق صدرها لسماع الرأي المغاير، والفكر المناقض...
لقد
ثبت بالملموس للداخل والخارج، أن آمال الشعوب وطموحاتها في التغيير والتقدم،
ومطالبها بالحرية والديموقراطية والتعددية الإيجابية، كل ذلك لن يكون على يدي
الحزب الواحد، وأنصاره المناوئين لكل فكر مختلف، أو تفكير متحرر من سجن
الايديولوجية وأسوارها الشاهقة مثل القلاع، والحبلى بالأشواك...
إن
الحرب التي استعر أوارها اليوم في بعض المناطق العربية بعد الحراك الشعبي
الجماهيري من أجل تغيير أنظمة الحكم الشمولية، والتي خرجت فيها الجموع والجماهير تهتف
وراء شعار خالد " الشعب يريد تغيير النظام " ؛ هي حرب بين ايديولوجية
الحزب الواحد الذي لا يريد الاستسلام لسنن الله الكونية في التغيير، وبين الذهنيات
التي تتأبى الظلم والاستبداد والهيمنة على مقاليد الحكم، وإملاء الأوامر والقرارات
على الشعب بعيدا عن استفتائه ومعرفة رأيه من خلال صناديق الاقتراع ..
و ستكون النتيجة حاسمة في
النهاية و لاشك، لان المستبد الظالم لا يمكن أن يستمر في قهره وبغيه واعتدائه على
حقوق مواطنيه ومطالبهم إلى ما لانهاية...
إن ما أخشاه ويخيفني بشدة، هو
أن يتحول الحزب الواحد المسيطر على الحكم
بعد إزالته من جميع دولنا العربية عاجلا أو آجلا، إلى نمط حياة، وطريقة تفكير في كثير
من ذهنيات مثقفينا ومواطنينا وطلابنا وطالباتنا في الجامعات، وقد بدأنا مع الأسف
الشديد نلاحظ تسرب بعض الممارسات الدالة
على الانصياع لفكرة الحزب الواحد في سلوكاتنا ومواقفنا ومناظراتنا، بل وحتى في كتاباتنا المختلفة ، أو على الأقل
-للابتعاد عن التعميم الأعمى- لدى فئات من المجتمع ...
إن الحزب الواحد في نظري؛ ليس
مقرات وايديولوجيا، وأجهزة وفروع وقيادات وبيانات وخط نضالي، إن الحزب الواحد كما
نشاهد من خلال بعض تمظهراته في تواصلنا اليومي مع كثير من الناس، هو التعصب للرأي
الواحد، والخيار الواحد، والتصور الواحد.
بعض أعضاء أحزاب معارضتنا ومثقفيها وأنصارها من
الطبقة العالمة في العالم العربي اليوم،
يوظفون مفاهيم الحزب الواحد بشكل سلبي أثناء انتقادهم للحكومات التي يختلفون مع
التشكيلات السياسية التي تؤثثها، أو مع من لا يشاطرونهم التفكير وأسلوب التدبير اليومي.
إن الآخر المختلف معنا، حين يستبد برأيه وموقفه وفاء لمرجعياته الشخصية،
ومعتقداته الفردية، وينظر إليك دائما أنك على خطإ لا باعتبار سلوك معين صدر عنك، أو
مارسته في سياق محدد، بل بالنظر إلى مرجعياتك، ومواقفك، ومذهبك، ونحلتك، وملتك،
وطائفتك، فإنه يمارس فكر الحزب الواحد ...إنه ببساطة يقترب من صفات
الديكتاتوري !!!
إن التعصب للرأي أو المذهب أو
الطائفة أو الجماعة، خلال التعبير عن الرأي أو الحكم على سلوك الأغيار ، كل ذلك
تعبير عن انتمائنا للحزب الواحد ...
لذا ، لا نستغرب حين نسمع عن اتهامات التخوين والتكفير ، فهما آليتان يلجأ إليهما
أصحاب فكر الحزب الواحد، والطائفة الواحدة، والجماعة الواحدة ؛ لتصفية خصومهم
وإقصائهم ، وتحريض الناس عليهم ...
إن ما قلناه عن الحزب، يمكن إسقاطه دون محاذير أحيانا على أفكار
وسلوكات بعض الجماعات التي تزعم امتلاكها الحقيقة وشرعية التفكير، وتمارس من خلال
الاستناد على بعض المقدسات إقصاء ممنهجا للخصوم المفترضين أو من لا يشاطرونها
الرأي ...إن الحزب في هذا المقال رمز فقط ، لكن المقصود هو الانغلاق والهيمنة
والرغبة المرضية في إملاء المواقف والاتجاهات على الناس باستعمال القوة بدل
الإقناع .